سورة الفتح - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {سيقول المُخلَّفون} الذين تخلَّفُوا عن الحديبية {إِذا انطلقتم إِلى مَغانِمَ} وذلك أنهم لمّا انصرفوا عن الحديبية بالصُّلح وعَدَهم اللهُ فَتْحَ خيبر، وخصَّ بها من شَهد الحديبية فانطلقوا إِليها، فقال هؤلاء المخلَّفون: {ذَرونا نتَّبعْكم}، قال الله تعالى: {يريدون أن يبدِّلوا كلام الله} وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {أن يبدِّلوا كَلِمَ الله} بكسر اللام.
وفي المعنى قولان:
أحدهما: أنه مواعيد الله بغنيمة خيبر لأهل الحديبية خاصة، قاله ابن عباس.
والثاني: أمْرُ الله نبيَّه أن لا يسير معه منهم أحد، وذلك أن الله وعده وهو بالحديبية أن يفتح عليه خيبر، ونهاه أن يسير معه أحد من المتخلِّفين، قاله مقاتل.
وعلى القولين: قصدوا أن يجيز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالِف أمْرَ الله، فيكون تبديلاً لأمره.
قوله تعالى: {كذلكم قال اللهُ مِنْ قَبْلُ} فيه قولان:
أحدهما: قال إِن غنائم خيبر لِمَن شَهِد الحديبية، وهذا على القول الأول.
والثاني: قال لن تتَّبعونا، وهذا قول مقاتل.
{فسيقولون بل تحسُدوننا} أي: يمنعُكم الحسد من أن نُصيب معكم الغنائم.


قوله تعالى: {ستُدْعَون إِلى قَوْم} المعنى: إن كنتم تريدون الغزو والغنيمة فستُدْعََون إِلى جهاد قوم {أُولي بأسٍِ شديدٍ}.
وفي هؤلاء القوم ستة أقوال:
أحدها: أنهم فارس، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وابن أبي ليلى، وابن جريج في آخرين.
والثاني: فارس والروم، قاله الحسن، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثالث: أنهم أهل الأوثان، رواه ليث عن مجاهد.
والرابع: أنهم الروم، قاله كعب.
والخامس: أنهم هوازن وغطفان، وذلك يوم حنين، قاله سعيد بن جبير، وقتادة.
والسادس: بنو حنيفة يوم اليمامة، وهم أصحاب مسيلمة الكذَّاب، قاله الزهري، وابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: خِلافةُ أبي بكر في هذه بيِّنةٌ مؤكدة. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نَعْلَم مَنْ هُمْ حتى دُعِيَ أبو بكر إِلى قتال بني حنيفة، فعَلِمنا أنهم هُمْ. وقال بعض أهل العِلْم: لا يجوز أن تكون هذه الآية إِلاّ في العرب، لقوله: {تُقاتِلونهم أو يُسْلِمُونَ}، وفارس والروم إِنما يقاتَلون حتى يُسْلِموا أو يؤدُّوا الجزية، وقد استدلَّ جماعةٌ من العلماء على صِحَّة إِمامة أبي بكر وعمر بهذه الآية، لأنه إِن أُريدَ بها بنو حنيفة، فأبو بكر دعا إِلى قتالهم، وإِن أُريدَ بها فارس والروم، فعمر دعا إِلى قتالهم، والآية تُلْزِمهم اتباع طاعة من يدعوهم وتتوعَّدهم على التخلُّف بالعقاب. قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدُلُّ على صِحَّة إِمامتها إِذا كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقاً للعقاب.
قوله تعالى: {فإن تُطيعوا} قال ابن جريج: فإن تُطيعوا أبا بكر وعمر، {وإِن تتولَّوا} عن طاعتهما {كما تولَّيتم} عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إِلى الحديبية. وقال الزجاج: المعنى: إِن تُبتم وتركتم نفاقكم وجاهدتم، يؤتكم اللهُ أجْراً حسناً، وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً.
قوله تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ} قال المفسرون: عَذَرَ اللهُ أهل الزَّمانة الذين تخلَّفوا عن المسير إِلى الحديبية بهذه الآية.
قوله تعالى: {يُدْخِلْه جناّتٍ} قرأ نافع، وابن عامر: {نُدْخِلْه} و{نُعْذِّبْه} بالنون فيهما؛ والباقون: بالياء.


ثم ذكر الذين أخلصوا نِيَّتهم وشَهِدوا بَيْعة الرّضوان بقوله: {لقد رضِيَ اللهُ عن المؤمِنين} وقد ذكرنا سبب هذه البَيْعة آنفاً، وإِنما سمِّيتْ بَيْعةَ الرّضوان، لقوله: {لقد رَضِيَ اللهُ عن المؤمنين إذ يُبايعونك تحت الشجرة} روى إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، البَيْعةَ البَيْعةَ، نَزَل روح القُدُس قال: فثُرنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايَعْناه، وقال عبد الله بن مغفَّل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يبايع الناس، وإِنِّي لأرفع أغصانَها عن رأسه. وقال بكير بن الأشج: كانت الشجرة بفجٍّ نحو مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة فيصلُّون عندها، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقُطِعتْ.
قوله تعالى: {فَعَلِمَ ما في قُلوبهم} أي: من الصِّدق والوفاء، والمعنى: علم أنهم مُخْلِصون {فأنزل السَّكينة عليهم} يعني الطُّمأنينة والرِّضى حتى بايَعوا على أن يقاتِلوا ولا يَفِرُّوا {وأثابهم} أي: عوَّضهم على الرِّضى بقضائه والصَّبر على أمره {فَتْحاً قريباً} وهو خيبر، {ومَغانِمَ كثيرةً يأخذونها} أي: من خيبر، لأنها كانت ذات عَقار وأموال، فأمّا قوله بعد هذا: {وعَدَكم اللهُ مَغانِمَ كثيرة تأخذونها} فقال المفسرون: هي الفُتوح التي تُفْتَح على المسلمين إِلى يوم القيامة.
{فعجَّل لكم هذه} فيها قولان:
أحدهما: أنها غنيمة خيبر، قاله مجاهد، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أنه الصُّلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: {وكَفَّ أيديَ الناس عنكم} فيهم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم اليهود همُّوا أن يغتالوا عيال المسلمين الذين خلّفوهم في المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك، قاله قتادة.
والثاني: أنهم أسد وغطفان جاؤوا لينصروا أهل خيبر، فقَذَفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعب، فانصرفوا عنهم، قاله مقاتل. وقال الفراء: كانت أسد وغطفان مع أهل خيبر، فقصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه وخلَّوا بينه وبين خيبر. وقال غيرهما: بل همَّت أسد وغطفان باغتيال أهل المدينة، فكفَّهم اللهُ عن ذلك.
والثالث: أنهم أهل مكة كفَّهم اللهُ بالصلح، حكاهما الثعلبي وغيره.
ففي قوله: {عنكم} قولان:
أحدهما: أنه على أصله، قاله الأكثرون.
والثاني: عن عيالكم، قاله ابن قتيبة، وهو مقتضى قول قتادة.
{ولِتَكون آيةً للمؤمنين} في المشار إليها قولان:
أحدهما: أنها الفَعْلة التي فَعَلها بكم من كَفِّ أيديهم عنكم كانت آيةً للمؤمنين، فعَلِموا أن الله تعالى متولَّي حراستهم في مَشهدهم ومَغيبهم.
والثاني: أنها خيبر كان فتحها علامةً للمؤمنين، في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدهم به.
قوله تعالى: {ويَهْدِيَكم صراطاً مستقيماً} فيه قولان:
أحدهما: طريق التوكُّل عليه والتفويض إِليه، وهذا على القول الأول.
والثاني: يَزيدكم هُدىً بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من وعد الله تعالى بالفتح والغنيمة.
قوله تعالى: {وأُخرى} المعنى: وعدكم الله مَغانمَ أُخرى؛ وفيها أربعة أقوال.
أحدها: أنها ما فُتح للمسلمين بعد ذلك. روى سماك الحنفي عن ابن عباس {وأُخرى لَمْ تَقْدِروا عليها} قال: ما فتح لكم من هذه الفتوح، وبه قال مجاهد.
والثاني: أنها خيبر، رواه عطية، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد.
والثالث: فارس والروم، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
والرابع: مكة، ذكره قتادة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: {قد أحاط اللهُ بها} فيه قولان:
أحدهما: أحاط بها عِلْماً أنها ستكون من فُتوحكم.
والثاني: حَفِظها لكم ومَنَعها من غيركم حتى فتحتموها.
قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا} هذا خطاب لأهل الحديبية، قاله قتادة؛ {والذين كفروا} مشركو قريش. فعلى هذا يكون المعنى لو قاتلوكم يومَ الحديبية {لولَّوُا الأدبار} لِما في قلوبهم من الرُّعب {ثم لا يجدون وليّاً} لأن لله قد خذلهم. قال الزجاج: المعنى: لو قاتلك من لم يقاتِلْك لنُصِرْتَ عليه، لأن سُنَّة الله النُّصرةُ لأوليائه. و{سُنَّةَ الله} منصوبة على المصدر، لأن قوله: {لولَّوُا الأدبار} معناه: سَنَّ اللهُ عز وجل خِذلانهم سُنَّةً، وقد مَرَّ مِثْلُ هذا في قوله: {كتابَ اللهِ عليكم} [النساء: 24] وقوله: {صُنْع اللهِ} [النمل: 88].
قوله تعالى: {وهُو الذي كَفَّ أيديَهم عنكم} روى أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهله مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلِّحين يريدون غِرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فأخذهم سِلْماً، فاستحياهم، وأنزل الله هذه الآية. وروى عبد الله بن مغفَّل قال: «كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة، فبينا نحن كذلك إِذ خرج علينا ثلاثون شابّاً، فثاروا في وُجوهنا، فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ قالوا: اللهم لا، فخلَّى سبيلهم، ونزلت هذه الآية» وذكر قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خَيْلاً فأتَوه باثني عشر فارساً من الكفار، فأرسلهم. وقال مقاتل: خرجوا يقاتِلون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فهزمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالطَّعن والنَّبل حتى أدخلهم بيوت مكة. قال المفسرون: ومعنى الآية: إِن الله تعالى ذكر مِنَّته إِذ حجز بين الفريقين فلم يقتتلا حتى تم الصلح بينهم. وفي بطن مكة ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الحديبية، قاله أنس.
والثاني: وادي مكة، قاله السدي.
والثالث: التنعيم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأمّا {مكة} فقال الزجاج: {مكة} لا تنصرف لأنها مؤنَّثة، وهي معرفة، ويصلُح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة، والميم تُبدل من الباء، يُقال: ضَرْبة لازم، ولازب، ويصلُح أن يكون اشتقاقها من قولهم: امْتَكَّ الفَصيل مافي ضرع النّاقة: إِذا مَصَّ مَصّاً شديداً حتى لا يُبْقي فيه شيئاً. فيكون سمِّيتْ بذلك لشِدَّة الازدحام فيها؛ قال: والقول الأول أحسن. وقال قطرب: مكة من تَمَكَّكْتُ المُخَّ: إذا أكلتَه. وقال ابن فارس: تَمَكَّكْتُ العظم: إِذا أخرجتَ مُخَّه؛ والتمكُّكُ: الاستقصاء؛ وفي الحديث: «لا تُمَكِّكوا على غُرَمائكم».
وفي تسمية {مكة} أربعة أقوال.
أحدها: لأنها مَثَاَبَةٌ يؤمُّها الخَلْقُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وكأنها هي التي تجذِبُهم إِليها، وذلك من قول العرب: امْتَكَّ الفَصيلُ ما في ضَرْع النّاقة.
والثاني: أنها سمِّيتْ مكة من قولك: بَكَكْتُ الرجُل: إِذا وضَعْتَ منه وَرَدَدْتَ نَخْوتَه فكأنها تَمُكُّ مَنْ ظلم فيها، أي تُهلكه وتُنْقِصه، وأنشدوا:
يا مَكَّةُ الفاجِرَ مُكِّي مَكَّا *** ولا تَمُكِّي مَذْحِجاً وعَكَّا
والثالث: أنها سمِّيتْ بذلك لجَهْد أهلها.
والرابع: لِقلَّة الماء بها.
وهل مكة وبكة واحد؟ قد ذكرناه في [آل عمران: 96].
قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أن أَظفركم عليهم} أي: بهم؛ يقال: ظَفِرْتُ بفلان، وظَفِرْتُ عليه.
قوله تعالى: {وكان اللهُ بما تعلمون بصيراً} قرأ أبو عمرو: {يعملون} بالياء والباقون: بالتاء.

1 | 2 | 3